فيا ليته لم يكن قاضيا ويا ليتها كانت القاضية
جاء أعرابي إلى أحد الولاة يشكو إليه سوء حاله وكثرة عياله وإلى جنب هذا زوجته ولدت، وليس لديه ما يطعمها ولا ما يطعم أولاده.
فقال له الوالي: لقد قتلك الفقر فاذهب إلى قاضي قضاة البلدة وارفع لديه تهمة ضد الفقر، فإنه سينظر في حالك.
فاحتار الأعرابي؛ أيذهب إلى القاضي كما قال له الوالي، أم يرجع ويعود خالي اليدين؟
فعزم على الذهاب إلى القاضي، فلما دخل مجلس القضاء وجده مكتظاً بالحاضرين، فتردد في رفع شكواه ولكن القاضي كان قد لمحه فقال له: ما شأنك أيها الرجل.
فتلعثم الأعرابي ثم شكا إليه حاله وحال زوجته وعياله، وذكر له ما كان من قول الوالي له، فضحك الحاضرون، وقالوا له: إنما أراد الوالي أن يتخلص منك!.
ولكن كاتب القاضي نظر إليه ولم يضحك مع من ضحك، ففهم الأعرابي أنه يريد أن يقول له شيئًا ما، فخرج من مجلس القضاء وانتظره حتى أتم عمله في ذلك اليوم واقترب منه فقال له الكاتب اعترض للقاضي غداً في الصباح وهو في طريقه إلى مجلس القضاء فلعل قلبه يرق لك فيرحم حالك.
ففعل الأعرابي مثلما أوصاه الكاتب، فنهره القاضي وزجره وقال له: أنعبث في القضاء، إننا هنا نقضي بين المتخاصمين فأين هو خصمك، فإما أن تذهب وتمضي وإلا سجناك حتى ترجع إلى رشدك، فانكسر الأعرابي وهو يسمع تهديد القاضي له، فلما رآه الكاتب عرف ذلك من وجهه وقال له: ما قال لك القاضي؟ فأخبره بأن القاضي هدده بالسجن إذا لم يمض.
فعندئذٍ قال له الكاتب: إن القاضي لم يعرف الفقر والعوز ولم يعش الفاقة ولكن زوجة القاضي من أسرة فقيرة، فهي تعرف ما يكون عليه حال من اشتدت علته وقلت حيلته، وهي أعلم بما يكون عليه حال المرأة عند الولادة من الألم والمرض والفقر، فإذا ما دخل القاضي مجلس القضاء وحضر الناس مجلسه فاختلس أنت إلى زوجته واشك إليها لعلها أدرى به.
فقال الأعرابي: وهل تراه يسمع منها؟
قال الكاتب: توكل على الله واسأله أن يلين لك قلبها فتلين هي لك قلبه.
فعندما أتاها الأعرابي وأخذ يشكو لها كثرة عياله وقلة ماله وسوء حاله وهي تنظر إليه ولا ترد، فلما ذكر لها أن زوجته نفساء وليس لديه شيء يقيمها به، قامت إليه وقالت له ائتِ إليه في الصباح بجملك هذا وأعقله عند باب مجلس القضاء، ولا تتعرض له حتى يدعوك.
وفي الصباح أتى الأعرابي وعقل جمله عند باب مجلس القضاء قبل أن يدخل القاضي وتوارى حتى لا يراه القاضي.
وحين أتى القاضي رأى الجمل وكانت زوجته في الليل قد كلمته في أمر هذا الأعرابي صاحب الجمل، فدخل مجلس القضاء ولما انتصف النهار وازدحم الناس حول القاضي إذا بالقاضي ينادي: أين صاحب الجمل فقام الأعرابي إليه.
فقال القاضي إنما تجاهلناك لنبلوك فمن اشتد به الحال يلح في السؤال، وقد حكمنا لك بما يحمله جملك هذا أرباعاً من الشعير والزيت والتمر والزبيب، وبما تحمله أنت من الكساء، ففرح الأعرابي وشكر له وخرج من مجلسه، وعلق عند الباب رقاً من الجلد كتب عليه أبياتاً من الشعر جاء فيها:
أقــاضٍ ولا تـمـضي أحـكامه
وأحــكــام زوجــتـه مـاضـيـة
ولا يـقـضِ حـكماً إلـى مـدّعٍ
إذا لــم تــكُ زوجـتـهُ راضـيـة
فحازت هي العدل في قولها
وألـقت بـظلمه فـي الـهاوية
فـمـن عـدلـها أنـهـا أنـصفت
فـقيراً مـن الفقر في البادية
فـيـا لـيـته لــم يـكـن قـاضياً
ويــا لـيـتها كـانـت الـقـاضية